التشكيلية التونسية أماني فاخت تنثر الألوان بحركة انسيابية فائقة

09/12/2013 11:27

التشكيلية التونسية أماني فاخت تنثر الألوان بحركة انسيابية فائقة

في أعمالها مع مادة الكهرمان 'الرانتج'

عصام الياسري


منذ بضعة شهور تقيم الفنانة التشكيلية التونسية الشابة أماني فاخت في العاصمة الألمانية ‘برلين’ بعد أن كانت تقيم في فرنسا ‘ليون ـ باريس′ لمدة عام، حرصت فيه على مواكبة الفعاليات الثقافية والفنية المتنوعة وإقامة معارض فنية خاصة أو المشاركة مع آخرين من جنسيات مختلفة.. تقول الفنانة ‘فاخت’ التي يعني أسمها ‘ظل القمر’ أنها اكتسبت خلال العام الكثير من الخبرة واستطاعت أن تطور مواهبها الفنية والحرفية وتعرفت على فنانين تشكيليين مرموقين من مختلف الاتجاهات الفنية، حيث ساعدها ذلك على الاستمرار في تنفيذ أفكارها التجريبية إنتقائياً وحرفياً.
ولدت الفنانة أماني فاخت في مدينة صغيرة تدعى ‘قفصة’ تقع جنوب غربيتونس، على حافة الصحراء التي تربط تونس بكل من الجزائر وليبيا وتتميز بالمناظر الخلابة والواحات والنخيل.. وهي من عائلة محافظة بسيطة الدخل تسودها تقاليد اجتماعية قروية لم تتأثر ببيئة وعادات مجتمعات المدن الكبيرة. حلمت أماني منذ الصغر بتغيير حياتها ورؤية عوالم أخرى تسمح باستنشاق طعم الحرية بعيداً عن القلق والكآبة. وما كادت أن تنهي دراستها الثانوية العامة بتفوق، حتى غادرت ضيعتها متجهة إلى العاصمة تونس للتعلم. 
في تونس العاصمة، أصبحت قريبة من خالها الفنان التشكيلي المعروف منير لطيف الذي كان قد درس في وقت مبكر الفنون وأصبح من الفنانين التشكيليين التونسيين البارزين، وعاش في اسبانيا لاكثر من ثماني سنوات عاد بعدها ليستقر في تونس ويفتح رواقه ‘كاليري’ الخاص في سيدي بو سعيد.. عندما وصلت العاصمة ـ تقول الفنانة أماني: كانت تلتهب في داخلي مشاعر مزدوجة، ستكون فاصلة، بين رغبتي في البحث عن مستقبل أفضل وبالتالي تغيير مجرى حياتي بالكامل، وبين تحمل ملامات عائلتي لي بسبب اصراري على ترك البلدة ورغبتي في الدراسة بتونس العاصمة. في البداية كنت أنوي دراسة أكاديمية تساعدني على العيش بأمان، لكن خالي اكتشف في هوايتي للرسم موهبتي وشجعني على دراسة الفن التشكيلي. وكان يسدي لي النصح وارشادي خلال دراستي خصوصاً في عملي التجريبي المُميّز مع مادة الكهرمان ‘الرانتج’ ويرجع الفضل اليه فيما توصلت إليه من خبرات فنية. ومادة الكهرمان ‘الرانتج’ تُعرف بالكهرب، عبارة عن سائل كثيف يُنتج كيماوياً ويستعمل كمثبّت يتحول من حالة اللزوجة السائلة إلى الحالة البلاستيكية الصلبة.
تعلمت الفنانة أماني فاخت على يد الفنان التشكيلي العراقي المحاضر في كلية الفنون الجميلة التونسية الأستاذ علي رضا. وأقامت بعد تخرجها عدة معارض داخل تونس وخارجها، في مراكش التي مكثت فيها أكثر من عام، والقاهرة واسطنبول وباريس وفي غيرها من الدول العربية والأوروبية. وزارت كوبا للاطلاع على مدارس وأساليب الفن التشكيلي هناك، وفي زيارة لكوبا اطلعت على مدارس وأساليب الفن التشكيلي . واقتنى كل من متحف العالم العربي والمتحف الأفريقي في ‘هافانا’ لوحة من أعمالها.. أينما حلت الفنانة فاخت إلا واقتربت من تلك المجتمعات الجديدة عليها، تتعرف على عاداتهم وتقاليدهم. وفي برلين التي صِرتُ أعشقها وأحس كاليمامة أحلق في أعاليها، تقول أماني: اكتشفت ذاتي ورحت أخبىء أسراري بين فضاءات أزقتها الرحبة. 
تمتلك الفنانة أماني فاخت التي تتمايل وتتألق في كل الاتجاهات، قدرة قوية في ‘ترجمة’ افكارها الجميلة فنياً، ويبدو لي أنها شديدة الانفعال تتمسك بقناعاتها وهاجسها أن تجسد الجمال لتتجلى مظاهره في أعمالها بأساليب مبتكرة لا تخلو من الابداع. فهي ترسم في المقام الأول أشكالاً تجريدية حديثة متنوعة وفق ‘تقنيات تجهد أن تكون خاصة ومميزة.. في أعمالها التجريبية الجديدة تتناثر الألوان وتتجلى الحركة بانسيابية فائقة وفق إيقاعات متجانسة داخل مادة ‘الرانتج’، تارة تثور وتارة تتلاشى ببطء. فيما يتعلق بالجانب الروحي، تجعل الالوان تتناسق والمشاهد تتجاذب والاكتشافات تتسع. وفي فن الرسم التجريبي الذي تشتغل عليه حالياً تستعمل مادة ‘الكهرمان’ والألوان ‘المائية’ وبعض المواد الأخرى كالقماش وقصاصات ورق الصحف. 
ترسم أماني في أعمالها ‘التجريدية’ الأشياء من كل أعماقها، وتحول الوانها إلى حيث تريد، وتحركها بايقاع من الحركة الداخلية باتجاه صيّغ جديدة في عوالم من المغامرة إلى ما لا نهاية. بحيث يتحول الشكل التجريدي الهندسي إلى تجريدي تعبيري بأساليب وسياقات تتآلف فيها الألوان والخطوط والأشكال الهندسية، وتخضع إلى مرجعيات تصويرية تعبيرية، الشكل يتآلف مع الألوان، التناقضات، والخطوط، كما وتتواءم تصويرياً ـ بصرياً مع ايقاع الحركة فيغدو ما هو مجرد حقيقيا؟. 
وبصرف النظر عن الطريقة وعدد الأساليب والأشكال التي تستعملها، إلا أن التجريب الحديث الذي تمارسه أماني فاخت لا يخرج عن قواعد الرسم التجريدي، في كما هو واضح في مادة ‘الرانتج’ والألوان المائية بشكل يلفت الانتباه يكشف عن موهبتها الفنية. فهي توزع الخطوط والألوان وكأنها متأثرة باسلوب التجريد التعبيري عند ‘كاندينسكي ـ فنان روسي 18661944′ أو التجريد الهندسي عند ‘موندريان ـ فنان هولندي 18721944′ لكن وفقاً لاسلوب تلقائي عفوي، وكأنها تريد من الالوان ان تتكلم ومن الصورة ان تنحرف عن اتجاهها الهندسي إلى فضاء غير منتظم لتبدو لوحاتها تنتمي الى فضاء مفتوح دون علاقة واضحة بمكان محدد. 
يشكل الرسم التجريدي جزءا مهما من الفن الحديث، ويُعد ظهوره تاريخيا على قدر كبير من الأهمية. فقد أعلن في عام 1911 عن أول الأعمال التجريدية المثيرة للجدل، بيد أن أول صورة مجردة رسمت في عام 1906. واستندت العديد من هذه الأعمال والرسومات التجريدية التقليدية الى مفاهيم نظرية جمالية ودراسات. وإذا كان للمرء أن يتحدث اليوم عن الفن الحديث، فان الرسم التجريدي اصبح في اتجاهاته العامة جزءا مهما من هذا الفن بشكل كبير.. 
الفنانة أماني فاخت مهوسة بالفن التشكيلي، لكنها مولعة روحياً بالرسم التجريدي وتميل نحوه حد الجنون. فهي لم تكن تتقيد باي انطباعات زائفة، إنما تنطلق من حساسية بصرية تقودها الى أهمية تجسيد البعد الرابع الذي يعني في الرسم ‘الزمن’ إضافة إلى محاولة ايجاد ايقاع خاص للشكل واللون يقودها من جديد الى خلق ‘نغمات’ لونية مختلفة تبدو وكأنها تتماوج: لون أصفر وأحمر صارخ يتواجدان برقة كما تختلج الألوان التي تعرف بالباردة كالأزرق والأخضر والبنفسجي لتضفي على رسومها سحراً غريباً يحمل الكثير من الدلالات الوجدانية وما يختلج صدرها من مشاعر وظمأ وآهات.
في لقائي واياها في دارها لمشاهدة أعمالها، اندهشت، ليس فقط من مستواها أو طريقة توزيعها للألوان بشكل منسجم وحسب، إنما من أسلوبها التشكيلي السردي، الذي لا يخلو من الفنطازيا والرموز، أيضاً اسلوبها غير النمطي فيتوزيع الضوء. وأستطيع القول أن سر ذلك يأتي من كونها لا تتمتع فقط بموهبة فنية أو براعة حرفية إنما لانها فنانة متميّزة هاجسها الأول البحث عن كل جديد، أيضاً عن الجمال في كل المرئيات التي تجسدها في لوحات جميلة أيضاً.